باب ما جاء في الذبح لغير الله
قوله : ( باب ما جاء في الذبح لغير الله )
من الوعيد وأنه شرك بالله .
قوله : ' 6 : 162 ، 163 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " الآية .
قال ابن كثير : يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له : بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته . لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والإنحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى . قال مجاهد : النسك الذبح في الحج والعمرة . وقال الثورى عن السدى عن سعيد ابن جبير : ونسكى ذبحى. وكذا قال الضحاك . وقال غيره " ومحياي ومماتي " أي وما آتيه في حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح " لله رب العالمين " خالصاً لوجهه " لا شريك له وبذلك " الإخلاص " أمرت وأنا أول المسلمين " أى من هذه الأمة لأن إسلام كل نبى متقدم .
قال ابن كثير : وهو كما قال ، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وذكر آيات في هذا المعنى .
ووجه مطابقة الآية للترجمة : أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك ، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات ، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه ، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته ، ظاهر في قوله : " لا شريك له " نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات ، وهو بحمد الله واضح .
قوله : " فصل لربك وانحر " قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أمر الله أن يجمع بين هاتين العبادتين ، وهما الصلاة والنسك ، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن ، وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته ، عكس حال أهل الكبر والنفرة ، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم ، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر ، ولهذا جمع بينهما في قوله : " قل إن صلاتي ونسكي " الآية والنسك الذبيحة لله تعالى إبتغاء وجهه . فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب ، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر . وأجل العبادات البدنية : الصلاة ، وأجل العبادات المالية : النحر . وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها ، كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص ، من قوة اليقين وحسن الظن : أمر عجيب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة ، كثير النحر .ا هـ .
قلت : وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيراً ، فمن ذلك الدعاء والتكبير ، والتسبيح والقراءة ، والتسميع والثناء ، والقيام والركوع ، والسجود والاعتدال ، وإقامة الوجه لله تعالى ، والإقبال عليه بالقلب ، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة ، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شئ لغير الله : وكذلك النسك يتضمن أموراً من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
حديث علي : لعن الله من ذبح لغير الله إلخ
قوله : وعن علي بن أبي طالب قال : " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق وفيه قصة .
ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال قلنا لعلى : أخبرنا بشئ أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أسر إلى شيئاً كتمه الناس ، ولكن سمعته يقول : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من غير تخوم الأرض ، يعنى المنار .
وعلى بن أبي طالب : هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، كان من أسبق السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، ورابع الخلفاء الراشدين ، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه ، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين .
قوله : لعن الله اللعن : البعد عن مظان الرحمة ومواطنها . قيل : واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة ، أو دعى عليه بها . قال أبو السعادات : أصل اللعن : الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه : إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى : ' 33 : 43 ، 44 ' " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام " وقال : ' 33 : 64 ' " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً " وقال : ' 33 : 61 ' "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً " والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل عليه السلام وبلغه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى ، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم . فالله تعالى هو المصلى وهو المثيب ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، وعليه سلف الأمة . قال الإمام أحمد رحمه الله : لم يزل الله متكلماً إذا شاء .
قوله : من ذبح لغير الله قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ' 2 : 173 ' " وما أهل به لغير الله " ظاهره : أنه ما ذبح لغير الله ، مثل أن يقول : هذا ذبيحة لكذا . وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للصنم وقال فيه : باسم المسيح أو نحوه . كما أن ماذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم ، وقلنا عليه : بسم الله . فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة ، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى ، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الإستعانة بغير الله . وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم ، وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقى هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال . لكن يجتمع في الذبيحة مانعان :
الأول : أنه مما أهل به لغير الله .
والثاني : أنها ذبيحة مرتد .
ومن هذا الباب : ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ، ولهذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن. اهـ .
قال الزمخشري : كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن ، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك .
وذكر إبراهيم المروزي : أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه ، أفتى أهل بخارى بتحريمه ، لأنه مما أهل به لغير الله .
قوله : لعن الله من لعن والديه يعني أباه وأمه وإن عليا . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " .
قوله : لعن الله من آوى محدثاً أى منعه من أن يؤخذ منه الحق الذى وجب عليه آوى بفتح الهمزة ممدوده أي ضمه إليه وحماه .
قال أبو السعادات : أويت إلى المنزل ، وأويت غيرى ، وآويته . وأنكر بعضهم المقصور المتعدى .
وأما محدثاً فقال أبو السعادات : يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانباً وآواه وأجاره من خصمه ، وحال بينه وبين أن يقتص منه . وبالفتح : هو الأمر المبتدع نفسه ، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه ، فإنه إذا رضى بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم .
قوله : ولعن الله من غير منار الأرض بفتح الميم علامات حدودها . قال أبو السعادات في النهاية ـ في مادة تخم ـ ملعون من غير تخوم الأرض أي معالمها وحدودها ، وحدها تخم قيل : أراد حدود الحرم خاصة : وقيل هو عام في جميع الأرض ، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق . وقيل هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً . قال ويروى تخوم بفتح التاء على الإفراد وجمعه تخم بضم التاء والخاء . ا هـ .
وتغييرها : أن يقدمها أو يؤخرها ، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين .
وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان :
أحدهما : أنه جائز . اختاره ابن الجوزى وغيره .
ثانيهما : لا يجوز ، اختاره ، أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام .
حديث دخل رجل الجنة في ذباب إلخ
قوله : " وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دخل الجنة رجل في ذباب . ودخل النار رجل في ذباب . قالوا كيف يا رسول الله ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم ، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما : قرب . قال : ليس عندي شئ أقرب . قالوا له : قرب ولو ذباباً . فقرب ذباباً . فخلوا سبيله ، فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل . فضربوا عنقه ، فدخل الجنة " رواه أحمد .
قال ابن القيم رحمه الله : قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال : دخل الجنة في رجل في ذباب الحديث .
وطارق بن شهاب : هو البجلى الأحمس ، أبو عبد الله . رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل .
قال البغوي : نزل الكوفة . وقال أبو داود : رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً . قال الحافظ : إذا ثبت أنه لقى النبي فهو صحابي . وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح ، وكانت وفاته ـ على ما جزم به ابن حبان ـ سنة ثلاث وثمانين .
قوله : دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجله .
قوله : قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله كأنهم تقالوا ذلك ، وتعجبوا منه . فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيماً يستحق هذا عليه الجنة ، ويستوجب الآخر عليه النار .
قوله : فقال : مر رجلان على قوم لهم صنم الصنم ما كان منحوتاً على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر .
قوله : لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئاً وإن قل .
قوله : قالوا له قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فخلوا سبيله ، فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك ، ولو في شئ قليل ، وأنه يوجب النار . كما قال تعالى : ' 5 : 72 ' " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " .
وفي هذا الحديث : التحذير من الوقوع في الشرك ، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدرى أنه من الشرك الذي يوجب النار .
وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء ، وإنما فعله تخلصاً من شر أهل الصنم .
وفيه أن ذلك الرجل كان مسلماً قبل ذلك ، وإلا فلو لم يكن مسلماً لم يقل دخل النار في ذباب .
وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان ، ذكره المصنف بمعناه .
قوله : وقالوا للآخر : قرب . قال : ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل .
قال المصنف رحمه الله : وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلى العمل الظاهر .
باب لا يذبح مكان يذبح فيه لغير الله
قوله : باب : لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى
لا نافية ويحتمل أنها للنهى وهو أظهر ، قوله : وقول الله تعالى ' 9 : 108 ' " لا تقم فيه أبدا " الآية قال المفسرون إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار ، والأمة تبع له في ذلك ، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنى على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف ، منهم ابن عباس ، وعروة ، والشعبي ، والحسن وغيرهم .
قلت : ويؤيده قوله في الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال : " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء . وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو مسجدي هذا " رواه مسلم ، وهو قول عمر وابنه وزيد ابن ثابت وغيرهم .
قال ابن كثير : وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية والحديث . لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى ، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى : ' 9 : 107 ' " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " . فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة . وكان الذي بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه ، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلقة في الليلة الشاتية ، فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد ، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة . وجه مناسبة الآية للترجمة : أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله ، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك ، فلا تجوز الصلاة فيه لله . وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت الضحاك الآتى .
قوله : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا " وفي رواية عن جابر وأنس هو ذاك فعليكموه رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم .
قوله : " والله يحب المطهرين " قال أبو العالية : إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب . وفيه إثبات صفة المحبة، خلافاً للأشاعرة ونحوهم .
حديث فيمن نذر بأن ينحر ببوانة
قوله : وعن ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم . قالوا : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود ، وإسناده على شرطهما .
قوله : عن ثابت بن الضحاك أي ابن خليفة الأشهلى ، صحابي مشهور ، روى عنه أبو قلابة وغيره . مات سنة أربع وستين .
قوله : ببوانة بضم الباء وقيل بفتحها . قال البغوي : موضع في أسفل مكة دون يلملم . قال أبو السعادات : هضبة من وراء ينبع .
قوله : فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ، ولو بعد زواله . قال المصنف رحمه الله .
قوله : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد ، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك والمراد به هنا الاجماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية . فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد ، كيوم الفطر ويوم الجمعة ، ومنها اجتماع فيه ، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات ، وقد يختص العيد بمكان بعينه ، وقد يكون مطلقاً ، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً . فالزمان كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة "إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً " والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمكان كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبرى عيداً " وقد يكون لفظ العيد إسماً لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً " انتهى .
قال المصنف : وفيه استفصال المفتى والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله .
قلت : وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين ، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك .
قوله : فأوف بنذرك هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله . أي في محل أعيادهم ، معصية ، لأن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بالفاء ، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم . فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه من هذين الوصفين . فلما قالوا لا قال أوف بنذرك وهذا يقتضى أن كون البقعة مكاناً لعيدهم ، أو بها وثن من أوثانهم : مانع من الذبح بها ولو نذره . قال شيخ الإسلام .
وقوله : فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع . وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء . واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين ؟ هما روايتان عن أحمد .
أحدهما : يجب وهو المذهب . وروى عن ابن مسعود وابن عباس . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " رواه أحمد وأهل السنن واحتج به أحمد واسحق .
ثانيهما : لا كفارة عليه . وروى ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي ، لحديث الباب . ولم يذكر فيه كفارة . وجوابه : أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم . والمطلق يحمل على المقيد .
قوله : ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح : يعنى إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال : إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك . فأما إذا التزم في الذمة شيئاً ، بأن قال إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق رقبة ، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها ، فإذا شفى مريضه ثبت ذلك في ذمته .
قوله : رواه أبو داود وإسناده على شرطهما أي البخاري ومسلم .
وأبو داود : اسمه سليمان ابن الأشعث بن اسحق بن بشير بن شداد الأزدى السجستانى صاحب الإمام أحمد ، ومصنف السنن والمراسيل وغيرها ، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين . رحمه الله تعالى .
المصدر كتاب فتح المجيد